فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

(98) سورة البيّنة:
نزولها: مدنية- وقيل مكية-.
نزلت بعد سورة الطلاق.
عدد آياتها: ثمانى آيات.
عدد كلماتها: أربع وسبعون كلمة.
عدد حروفها: ثلاثمائة وتسعة وتسعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
كانت سورة (القدر) التي سبقت هذه السورة تنويها بالليلة المباركة التي نزل فيها القرآن الكريم، فنالت بشرف نزوله فيها هذا القدر العظيم الذي ارتفعت به على الليالى جميعا.. فالتنويه بليلة القدر هو- في الواقع- تنويه بالقرآن الكريم، وأن الاتصال به يكسب الشرف ويعلى القدر للأزمان والأمكنة والأشخاص.
وسورة (البيّنة) تحدّث عن هذا القرآن، وعن رسول اللّه الحامل لهذا القرآن، وموقف الكافرين من أهل الكتاب والمشركين، من القرآن، والرسول الداعي إلى اللّه بالقرآن.. ومن هنا كان الجمع بين السورتين قائما على هذا الترابط القوىّ، الذي يجعل منهما وحدة واحدة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 8) [سورة البينة (98): الآيات 1- 8]
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}
قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً}.
{من} في قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ} بيانية، وفيها معنى التبعيض أيضا، إذ ليس كلّ أهل الكتاب كافرين، بل هم كما يقول اللّه تعالى: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} (110: آل عمران). فالمراد بالذين كفروا هنا ليس الكافرين على إطلاقهم، وإنما هم الكافرون من أهل الكتاب- اليهود والنصارى- وهم بعض من أهل الكتاب، أو معظم أهل الكتاب.
والمشركون، هم مشركو العرب، وعلى رأسهم مشركو قريش. ومعنى الانفكاك في قوله تعالى: {منفكّين} هو حلّ تلك الرابطة الوثيقة التي جمعت بينهم جميعا على الكفر والضلال.
فالذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون، على سواء في الضلال، وفى البعد عن مواقع الحق.. فهم وإن اختلفوا دينا ومعتقدا، وجنسا وموطنا- على سواء في الضلال وفساد المعتقد، وهم لهذا كيان واحد، وقبيل واحد، ينتسبون إلى أب واحد، هو الكفر والضلال.
أما الكافرون من أهل الكتاب، فقد كان كفرهم بما غيّروا، وبدّلوا من شرع اللّه، وبما تأوّلوا من كتب اللّه التي بين أيديهم، فحرّفوا الكلم عن مواضعه، وقالوا عن اللّه سبحانه ما لم يقله.
وأما المشركون، فقد اغتال جهلهم وضلالهم كل معانى الحق، التي تركها فيهم أنبياؤهم الأولون، كهود، وصالح، وإبراهيم، وإسماعيل، عليهم السلام.. فانتهى بهم الأمر إلى الشرك باللّه، وعبادة الأصنام من دون اللّه.
ومجمل معنى الآية الكريمة: أن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون لن تنحلّ منهم هذه الرابطة الوثيقة التي جمعت بينهم على الكفر والضلال، حتى تأتيهم البينة.. فإذا أتتهم البينة تقطع ما بينهم، وانحلت وحدتهم، وأخذ كلّ الطريق الذي يختاره..
و{البينة} هي ما أشار إليها قوله تعالى: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً} فالرسول صلوات اللّه وسلامه عليه- هو {البينة}، أي البيان المبين، الذي يبين طريق الحقّ بما يتلو من آيات اللّه على الناس..
وفى جعل الرسول هو البينة- مع أن البينة هي آيات اللّه- إشارة إلى أن الرسول الكريم، هو في ذاته بينة، وهو آية من آيات اللّه، في كماله، وأدبه، وعظمة خلقه، حتى لقد كان كثير من المشركين يلقون النبي لأول مرة فيؤمنون به، قبل أن يستمعوا إلى آيات اللّه منه، وقبل أن يشهدوا وجه الإعجاز فيها..
وأنه ليكفى أن يقول لهم إنه رسول اللّه، فيقرءون آيات الصدق في وجهه وفى وقع كلماته على آذانهم.. وقد آمن المؤمنون الأولون، ولم يكن قد نزل من القرآن قدر يعرفون منه أحكام الدين، ومبادئه، وأخلاقياته.. بل إن إيمانهم كان استجابة لما دعاهم إليه رسول اللّه، لأنه لا يدعو- كما عرفوه وخبروه- إلا إلى خير وحق.
والصحف المطهرة، هي آيات القرآن الكريم، التي يتلوها الرسول الكريم، كما أوحاها إليه ربه، وكما تلقاها من رسول الوحى، على ما هي عليه في صحف اللوح المحفوظ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ} (11- 16: عبس).
وطهارة هذه الصحف، هو نقاء آياتها، وصفاؤها، من كل سوء.. فهى حق خالص، وكمال مطلق..
{إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (42: فصلت).
وقوله تعالى: {فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}. والكتب القيمة التي في هذه الصحف، هي الكتب التي نزلت على أنبياء اللّه ورسله، كصحف إبراهيم وموسى.. كما يقول سبحانه: {إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الأولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى} (18- 19: الأعلى).
فالقرآن الكريم جمع ما تفرق فيما أنزل اللّه من كتب على أنبيائه، فكان به تمام دين اللّه، الذي هو الإسلام، كما يقول سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} (19: آل عمران).
وكون الصحف تحوى في كيانها الكتب، مع أن العكس هو الصحيح، كما هو في معهودنا، إشارة إلى أن صحف القرآن، هي بالنسبة إلى الكتب السماوية السابقة، كتب.. وأن الصحيفة، أو مجموعة الصحف منه تعادل كتابا من تلك الكتب إذ جمعت في كلماتها المعجزة ما تفرق في هذه الكتب.
وفى هذا ما يدل على قدر هذا القرآن العظيم، وأنه كان لهذا جديرا أن ينزل في ليلة القدر، التي هي ليلة الزمن كله، كما أن هذا الكتاب هو شرع اللّه كله.
وقوله تعالى: {وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}.
الخطاب هنا إلى أهل الكتاب جميعا، لا إلى الذين كفروا منهم.. فأهل الكتاب جميعا، هم في هذا المقام في مواجهة البينة.. وقد اختلف موقفهم منها، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر.. وهنا تفرق أمرهم، وأخلى الذين آمنوا منهم مكانهم فيهم..
والسؤال هنا:
ألم يكن أهل الكتاب متفرقين قبل أن يأتيهم رسول اللّه، ويدعوهم إلى الإيمان باللّه؟
ألم يكن منهم مؤمنون وكافرون، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ..}؟. ألم يكن هذا الإخبار عنهم بهذا الوصف، قبل أن تأتيهم البينة؟ فما تأويل هذا؟
نقول- واللّه أعلم- إن أهل الكتاب، وإن كان فيهم المؤمنون الذين استقاموا على شريعة اللّه، كما جاء هم بها أنبياؤهم، غير متبعين ما دخل عليهم من تبديل وتحريف- إلا أن هؤلاء المؤمنين، هم في مواجهة الشريعة الإسلامية غير مؤمنين، إذا لم يصلوا إيمانهم هذا، بالإيمان بدين اللّه (الإسلام) الذي كمل به الدين.. فالمؤمنون حقّا من أهل الكتاب، لا يجدون في الإيمان بالإسلام حجازا يحجز بينهم وبينه، إذ كان دينهم بعضا من هذا الدين، وبعض الشيء ينجذب إلى كله، ولا يأخذ طريقا غير طريقه! فأهل الكتاب جميعا- المؤمنون منهم والكافرون- على سواء في مواجهة الدين الإسلامى، كلّهم مدعوون إلى الإيمان به، فمن لم يؤمن به فهو كافر.
وأهل الكتاب، إذ دعوا إلى الإيمان بدين اللّه، تفرقوا، فآمن قليل منهم، وكفر كثير.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى في قوله: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} (121: البقرة) وبقوله سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (52- 53: القصص).
وأما المشركون، فقد انفكوا، وانفصلوا عن الكافرين من أهل الكتاب، بعد أن جاءتهم البينة إذ أنهم آمنوا باللّه، ودخلوا في دين اللّه جميعا، بعد أن تلبثوا على طريق العناد والضلال! وقوله تعالى: {وَما أمروا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}.
أي أن أهل الكتاب الذين دعوا إلى الإيمان بشريعة الإسلام، لم يدعوا إلى أمر لا يعرفونه، ولم يؤمروا بأمر لم تأمرهم به شريعتهم التي هم بها يؤمنون..
إنهم ما أمروا إلا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين، لا يعبدون إلها غيره {حنفاء}
أي مائلين عن أي طريق غير طريق اللّه.. وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.
فهذا هو شرع اللّه، وتلك أحكام شريعته لكل المؤمنين بشرائع السماء.. إنها جميعا تقوم على هذه الأصول الثابتة:
وأولها الإيمان باللّه وحده، إيمانا خالصا من كل شرك، مبرأ من كل ما لا يجعل للّه سبحانه وتعالى التفرد بالخلق والأمر.
ثم إقام الصلاة، التي هي مظهر الولاء للّه، وآية الخضوع لجلاله وعظمته..
ثم إيتاء الزكاة، التي هي أثر من آثار الإيمان باللّه، الذي من شأنه أن يقيم المؤمنين باللّه على التوادّ والتراحم، والتعاطف فيما بينهم، كما يقيمهم الولاء للّه، والخضوع لجلاله وعظمته، كيانا واحدًا في محراب الصلاة له..
وإذا كان هذا هو ما تدعو إليه الشرائع السماوية جميعا، وإذا كان هذا ما تدعو إليه شريعة الإسلام- فإن الذي يفرق بين هذه الشرائع وبين شريعة الإسلام، هو جائر عن طريق الحق، معتد على حدود اللّه.. إذ كانت شرائع اللّه كلها- سابقها ولا حقها- حرم اللّه وحدوده التي حدها لعباده: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. ولهذا كانت دعوة الإسلام قائمة على الإيمان بشرائع اللّه كلها، وبرسل اللّه كلهم: {قولوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحد مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (136: البقرة) قوله تعالى: {وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}.. أي الدين القيم، أي المستقيم، أو دين الملة أو الأمة المستقيمة على الحق القائمة بالقسط- فكل من خرج على هذا الدين فهو على غير دين اللّه، كما يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (159: الأنعام) ومن معانى {الدّين} هنا، دين اللّه، وهو الإسلام.. والقيّمة: مذكّر القيّم، بمعنى المستقيم، كما يقول تعالى: {ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (36: التوبة). اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)}
استصعب في كلام المفسرين تحصيل المعنى المستفاد من هذه الآيات الأربع من أول هذه السورة تحصيلًا ينتزع من لفظها ونظمها، فذكر الفخر عن الواحدي في (التفسير البسيط) له أنه قال: هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظمًا وتفسيرًا وقد تخبط فيها الكبار من العلماء.
قال الفخر: ثم إنه لم يلخص كيفية الإِشكال فيها.
وأنا أقول: وجه الإِشكال أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عماذا لكنه معلوم إذ المراد هو الكفر والشرك اللذيْن كانوا عليهما فصار التقدير: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إن كلمة {حتى} لانتهاء الغاية فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال بعد ذلك: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} [البينة: 4] وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم فحينئذ حصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر. اهـ كلام الفخر.
يريد أن الظاهر أن قوله: {رسول من الله} بدل من {البينة} وأن متعلق {منفكين} حُذف لدلالة الكلام عليه لأنهم لما أجريت عليهم صلة الذين كفروا دل ذلك على أن المراد لم يكونوا منفكين على كفرهم، وأن حرف الغاية يقتضي أن إتيان البينة المفسِّرة بـ: {رسول من اللَّه} هي نهاية انعدام انفكاكهم عن كفرهم، أي فعند إتيان البينة يكونون منفكين عن كفرهم فكيف مع أن الله يقول: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} [البينة: 4] فإن تفرقهم راجع إلى تفرقهم عن الإِسلام وهو ازدياد في الكفر إذ به تكثر شبه الضلال التي تبعث على التفرق في دينهم مع اتفاقهم في أصل الكفر، وهذا الأخير بناء على اعتبار قوله تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب} [البينة: 4] إلخ كلامًا متصلًا بإعراضهم عن الإِسلام وذلك الذي درج عليه المفسرون ولنا في ذلك كلام سيأتي.
ومما لم يذكره الفخر من وجه الإِشكال: أن المشاهدة دلت على أن الذين كفروا لم ينفكوا عن الكفر في زمن مَّا، وأن نصب المضارع بعد {حتى} ينادي على أنه منصوب بـ: (أنْ) مضمرة بعد {حتى} فيقتضي أنّ إتيان البينة مستقبل وذلك لا يستقيم فإن البينة فسرت بـ: {رسول من اللَّه} وإتيانْ الرسول وقع قبل نزول هذه الآيات بسنين وهم مستمرون على ما هم عليه: هؤلاء على كفرهم، وهؤلاء على شركهم.
وإذ قد تقرر وجه الإِشكال وكان مظنونًا أنه ملحوظ للمفسرين إجمالًا أو تفصيلًا فقد تعين أن هذا الكلام ليس واردًا على ما يتبادر من ظاهره في مفرداته أو تركيبه، فوجب صرفه عن ظاهره، إما بصرف تركيب الخَبر عن ظاهر الإِخبار وهو إفادة المخاطَب النسبة الخبرية التي تضمنها التركيب، بأن يُصرف الخبر إلى أنه مستعمل في معنى مجازي للتركيب.
وإمّا بصرف بعض مفرداته التي اشتمل عليها التركيب عن ظاهر معناها إلى معنى مجازٍ أو كناية. فمن المفسرين من سلك طريقة صرف الخبر عن ظاهره.
ومنهم من أبقوا الخبر على ظاهر استعماله وسلكوا طريقة صرف بعض كلماته عن ظاهر معانيها وهؤلاء منهم من تأول لفظ {منفكين} ومنهم من تأول معنى {حتى} ومنهم من تأول {رسول}، وبعضهم جوز في {البينة} وجهين.
وقد تعددت أقوال المفسرين فبلغت بضعَة عشر قولا ذكر الآلوسي أكثرها وذكر القرطبي مُعظمها غيرَ معزُو، وتداخل بعض ما ذكره الآلوسي وزاد أحدهما ما لم يذكره الآخر.
ومراجع تأويل الآية تَؤُول إلى خمسة:
الأول: تأويل الجملة بأسرها بأن يُؤوَّل الخبر إلى معنى التوبيخ والتعجيب، وإلى هذا ذهب الفراء ونفطويه والزمخشري.
الثاني: تأويل معنى {منفكين} بمعنى الخروج عن إمهال الله إياهم ومصيرهم إلى مؤاخذتهم، وهو لابن عطية.
الثالث: تأويل متعلق {منفكين} بأنه عن الكفر وهو لعبد الجَبَّار، أو عن الاتفاق على الكفر وهو للفخر وأبي حيّان.
أو منفكين عن الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق قبل بعثته وهو لابن كيسان عبد الرحمن الملقب بالأصم، أو منفكين عن الحياة، أي هالكين، وعُزي إلى بعض اللغويين.
الرابع: تأويل {حتى} أنها بمعنى (إنْ) الاتصالية. والتقدير: وإن جاءتهم البينة.
الخامس: تأويل {رسول} بأنه رسول من الملائكة يتلو عليهم صحفًا من عند الله فهو في معنى قوله تعالى: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء} [النساء: 153] وعزاه الفخر إلى أبي مسلم وهو يقتضي صرف الخبر إلى التهكم.
هذا والمراد بـ: {الذين كفروا من أهل الكتاب} أنهم كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب} [الحشر: 11].
وأنت لا يعوزك إرجاع أقوال المفسرين إلى هذه المعاقد فلا نحتاج إلى التطويل بذكرها فدونك فراجعها إن شئت، فبنا أن نهتم بتفسير الآية على الوجه البين.
إن هذه الآيات وردت مورد إقامة الحجة على الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب وعلى المشركين بأنهم متنصلون من الحق متعللون للإِصرار على الكفر عنادًا، فلنسلك بالخَبر مسلك مورد الحجة لا مسلك إفادة النسبَةِ الخبرية فتعين علينا أن نصرف التركيب عن استعمال ظاهره إلى استعمال مجازي على طريقة المجاز المرسل المركب من قَبيل استعمال الخبر في الإِنشاء والاستفهاممِ في التوبيخ ونحو ذلك الذي قال فيه التفتازاني في (المطول): إن بيان أنه من أيّ أنواع المجاز هُو مما لم يَحُم أحد حوله.
والذي تَصدَّى السيد الشريف لبيانه بما لا يُبقي فيه شبهة.
فهذا الكلام مسوق مساق نقل الأقوال المستغربة المضطربة الدالة على عدم ثبات آراء أصحابها، فهو من الحكاية لِما كانوا يَعِدُون به فهو حكاية بالمعنى كأنه قيل: كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه حتى تأتينا البينة، وهذا تعريض بالتوبيخ بأسلوب الإِخبار المستعمل في إنشاء التعجيب أو الشكايةِ من صَلَفف المُخبر عنه، وهو استعمال عزيز بديع وقريب منه قوله تعالى: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن اللَّه مخرج ما تحذرون} [التوبة: 64] إذ عَبَّر بصيغة يَحْذَر وهم إنما تظاهروا بالحذر ولم يكونوا حاذرين حقًا ولذلك قال الله تعالى: {قل استهزئوا}.
فالخبر موجَّه لكل سامع، ومضمومه قول: كان صدر من أهل الكتاب واشتهر عنهم وعرفوا به وتقرَّر تعلُّل المشركين به لأهل الكتاب حتى يدعونهم إلى اتباع اليهودية أو النصرانية فيقولوا: لم يأتنا رسول كما أتاكم قال تعالى: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} [الأنعام: 156، 157].
وتقرر تعلل أهل الكتاب به حين يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم للإِسلام، قال تعالى: {الذين قالوا إن اللَّه عهد إلينا ألاَّ نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار} [آل عمران: 183] الآية.
وشيوعه عن الفريقين قرينة على أن المراد من سياقه دمغهم بالحجة وبذلك كان التعبير بالمضارع المستقبل في قوله: {حتى تأتيهم البينة} مصادفًا المحزّ فإنهم كانوا يقولون ذلك قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقريب منه قوله تعالى في أهل الكتاب: {ولما جاءهم كتاب من عند اللَّه مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89].
وحاصل المعنى: أنكم كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه من الدين حتى تأتينا البينة، أي العلامة التي وُعدنا بها.
وقد جعل ذلك تمهيدًا وتوطئة لقوله بعده: {رسول من الله يتلوا صحفًا مطهرة} الخ.
وإذ اتضح موقع هذه الآية وانقشع إشكالها فلننتقل إلى تفسير ألفاظ الآية.
فالانفكاك: الإِقلاع، وهو مطاوع فكَّه إذا فصَله وفرقه ويستعار لمعنى أقلع عنه ومتعلق {منفكين} محذوف دل عليه وصف المتحدث عنهم بصلة {الذين كفروا} والتقدير: منفكين عن كفرهم وتاركين له، سواء كان كفرهم إشراكًا بالله مثل كفر المشركين أو كان كفرًا بالرسول صلى الله عليه وسلم فهذا القول صادر من اليهود الذين في المدينة والقرى التي حولها ويتلقفه المشركون بمكة الذين لم ينقطعوا عن الاتصال بأهل الكتاب منذ ظهرت دَعوة الإِسلام يستفتونهم في ابتكار مخلص يتسللون به عن ملام من يلومهم على الإِعراض عن الإِسلام.
وكذلك المشركون الذين حول المدينة من الأعراب مثل جُهَينة وغَطَفان، ومن أفراد المتنصرين بمكة أو بالمدينة.
وقد حكى الله عن اليهود أنهم قالوا: {إن الله عهد إلينا ألا نؤمنَ لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار} [آل عمران: 183]، وقال عنهم: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89]، وحكى عن النصارى بقوله تعالى حكاية عن عيسى: {ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 6].
وقال عن الفريقين: {ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردُّونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} [البقرة: 109]، وحكى عن المشركين بقوله: {فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى} [القصص: 48] وقولهم: {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} [الأنبياء: 5].
ولم يختلف أهل الكتابين في أنهم أخذ عليهم العهد بانتظار نبيء ينصر الدين الحق وجعلت علاماته دلائلَ تظهر من دعوته كقول التوراة في سفر التثنية: أقيم لهم نبيئًا من وسط إخوتهم مِثلَك وأجعل كلامي في فمه.
ثم قولها فيه: وأما النبي الذي يطغى فيتكلم كلامًا لم أوصه أن يتكلم به فيموت ذلك النبي وإن قلتَ في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب (الإصحاح الثامن عشر).
وقول الإنجيل: وأنَا أطلب من الأب فيعطيكم معزِّيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد (أي شريعته لأن ذات النبي لا تمكث إلى الأبد) روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه (يوحنا الإِصحاح الرابع عشر الفقرة 6) وأما المعزي الروح القُدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلتُه لكم (يوحنا الإِصحاح الرابع عشر فقرة 26).
وقوله: ويقوم أنبياء كَذَبةٌ كثيرون، (أي بعد عيسى) ويُضلون كثيرين ولكن الذي يَصْبر إلى المنتهى (أي يبقى إلى انقرأض الدنيا وهو مؤول ببقاء دينه إذ لا يبقى أحد حيًا إلى انقرأض الدنيا) فهذا يخلِّص ويكرر ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادةً لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى.، أي نهاية الدنيا (متّى الإصحاح الرابع والعشرون)، أي فهو خاتم الرسل كما هو بين.
وكان أحبارُهم قد أساءوا التأويل للبشارات الواردة في كتبهم بالرسول المقفِّي وأدْخَلوا علامات يعرفون بها الرسول صلى الله عليه وسلم الموعود به هي من المخترعات الموهومة فبقي مَنْ خَلْفَهم ينتظرون تلك المخترعات فإذا لم يجدوها كذَّبوا المبعوث إليهم.
و{البينة}: الحجة الواضحة والعلامة على الصدق وهو اسم منقول من الوصف جرى على التأنيث لأنه مؤول بالشهادة أو الآية.
ولعل إيثار التعبير بها هنا لأنها أحسن ما تترجَم به العبارةُ الواقعة في كتب أهل الكتاب مما يحوم حول معنى الشهادة الواضحة لكل متبصر كما وقع في إنجيل متّى لفظ (شهادة لجميع الأمم)، (ولعل التزام هذه الكلمة هنا مرتين كان لهذه الخصوصية) وقد ذُكرت مع ذكر الصحف الأولى في قوله: {وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أو لمْ تأتهم بينةُ ما في الصُّحف الأولى} [طه: 133].
والظاهر أن التعريف في {البينة} تعريف العهد الذهني، وهو أن يراد معهود بنوعه لا بشخصه كقولهم: ادخُل السوق، لا يريدون سوقًا معينة بل ما يوجد فيه ماهية سوق، ومنه قول زهير:
وما الحَرْب إلاّ ما عَلِمْتُم وذُقْتُم

ولذلك قال علماء البلاغة: إن المعرَّف بهذه اللام هو في المعنى نكرة فكأنه قيل حتى تأتيهم بينةٌ.
ويجوز أن يكون التعريف لمعهود عند المخبَر عنهم، أي البينة التي هي وصايا أنبيائهم فهي معهودة عند كل فريق منهم وإن اختلفوا في تخيلها وابتعدوا في توهمها بما تمليه عليه تخيلاتهم واختلاقهم.
وأوثرت كلمة {البينة} لأنها تعبر عن المعنى الوارد في كلامهم ولذلك نرى مادَّتها متكررة في آيات كثيرة من القرآن في هذا الغرض كما في قوله: {أوَلَمْ تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} [طه: 133] وقوله: {فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 6] وقوله: {مِن بَعد ما تبيَّن لهم الحق} [البقرة: 109] وقال عن القرآن: {هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} [البقرة: 185].
و{مِن} في قوله: {من أهل الكتاب} بيانية بيان للذين كفروا.
وإنما قدم أهل الكتاب على المشركين هنا مع أن كفر المشركين أشد من كفر أهل الكتاب لأن لأهل الكتاب السبق في هذا المقام فهم الذين بثّوا بين المشركين شبهة انطباق البينة الموصوفة بينهم فأيدوا المشركين في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بما هو أتقن من تُرَّهات المشركين إذ كان المشركون أميين لا يعلمون شيئًا من أحوال الرسل والشرائع، فلما صدمتهم الدعوة المحمدية فزعوا إلى اليهود ليتلقوا منهم ما يردُّون به تلك الدعوة وخاصة بعد ما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
فالمقصود بالإِبطال ابتداءً هو دعوى أهل الكتاب، وأما المشركون فتبع لهم.
واعلم أنه يجوز أن يكون الكلام انتهى عند قوله: {حتى تأتيهم البينة}، فيكون الوقف هناك ويكون قوله: {رسول من اللَّه} إلى آخرها جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا وهو قول الفراء، أي هي رسول من الله، يعني لأن ما في البينة من الإِبهام يثير سؤال سائل عن صفة هذه البينة، وهي جملة معترضة بين جملة {لم يكن الذين كفروا... منفكين} إلى آخرها وبين جملة: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب} [البينة: 4].
ويجوز أن يكون {رسول} بدلًا من {البينة} فيقتضي أن يكون من تمام لفظ {بينة} فيكون من حكاية ما زعموه.
أريد إبطال معاذيرهم وإقامة الحجة عليهم بأن البينة التي ينتظرونها قد حلّت ولكنهم لا يتدبرون أو لا ينصفون أو لا يفقهون، قال تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89].
وتنكير {رسول} للنوعية المرادِ منها تيسير ما يستصعب كتنكير قوله تعالى: {أيامًا معدودات} [البقرة: 184] وقول: {المص كتاب أنزل إليك} [الأعراف: 1، 2].
وفي هذا التبيين إبطال لمعاذيرهم كأنه قيل: فقد جاءتكم البينة، على حد قوله تعالى: {أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير} [المائدة: 19]، وهو يفيد أن البينة هي الرسول وذلك مثل قوله تعالى: {قد أنزل اللَّه إليكم ذكرًا رسولًا يتلو عليكم آيات اللَّه} [الطلاق: 10، 11].
فأسلوب هذا الردّ مثل أسلوب قوله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرًا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا أو تأتي باللَّه والملائكة قبيلًا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابًا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولًا وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث اللَّه بشرًا رسولًا} [الإسراء: 90 94].
وفي هذا تذكير بغلطهم فإن كتبهم ما وعدت إلا بمجيء رسول معه شريعة وكتاب مصدق لما بين يديه وذلك مما يندرج في قولة التوراة: (وأجْعَلُ كلامي في فمه).
وقول الإنجيل: (ويُذكركم بكل ما قلتُه لكم) كما تقدم آنفًا، وهو ما أشار إليه قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب} [المائدة: 48] لأن التوراة والإنجيل لم يصفا النبي الموعود به إلا بأنه مثل موسى أو مثل عيسى، أي في أنه رسول يوحي الله إليه بشريعة، وأنه يبلغ عن الله وينطلق بوحيه، وأن علامته هو الصدق كما تقدم آنفًا.
قال حجة الإِسلام في كتاب (المنقذ من الضلال): إن مجموع الأخلاق الفاضلة كان بالغًا في نبينا إلى حد الإِعجاز وأن معجزاته كانت غاية في الظهور والكثرة.
و{من اللَّه} متعلق بـ: {رسول} ولم يُسلَك طريق الإِضافة ليتأتى تنوين {رسول} فيشعر بتعظيم هذا الرسول.
وجملة {يتلوا صحفًا} إلخ صفة ثانية أو حال، وهي إدماج بالثناء على القرآن إذ الظاهر أن الرسول الموعود به في كتبهم لم يوصف بأنه يتلو صحفًا مطهرة.
والتلاوة: إعادة الكلام دون زيادة عليه ولا نقص منه سواء كان كلامًا مكتوبًا أو محفوظًا عن ظهر قلب، ففعل {يتلو} مؤذن بأنه يقرأ عليهم كلامًا لا تُبَدَّل ألفاظه وهو الوحي المنزل عليه.
والصحف: الأوراق والقراطيس التي تُجعل لأن يكتب فيها، وتكون من رَق أو جلد، أو من خِرَق.
وتسمية ما يتلوه الرسول {صحفًا} مجاز بعلاقة الأيلولة لأنه مأمور بكتابته فهو عند تلاوته سيكون صُحفًا، فهذا المجاز كقوله: {إني أراني أعصر خمرًا}
[يوسف: 36].
وهذا إشارة إلى أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن في الصحف وما يشبه الصحف من أكتافف الشاء والخِرَق والحجارة، وأن الوحي المنزل على الرسول سمي كتابًا في قوله تعالى: {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} [العنكبوت: 51] لأجل هذا المعنى.
وتعدية فعل {يتلو} إلى {صحفًا} مجاز مرسل مشهور ساوى الحقيقة قال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب} [العنكبوت: 48]، وهو باعتبار كون المتلو مكتوبًا، وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم القرآن عن ظهر قلب ولا يقرأه من صحف فمعنى {يتلو صحفًا} يتلو ما هو مكتوب في صحف والقرينة ظاهرة وهي اشتهار كونه صلى الله عليه وسلم أمِّيًّا.
ووصف الصحف بـ: {مطهرة} وهو وصف مشتق من الطهارة المجازية، أي كون معانيه لا لبس فيها ولا تشتمل على ما فيه تضليل، وهذا تعريض ببعض ما في أيدي أهل الكتاب من التحريف والأوهام.
ووصف الصحف التي يتلوها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن فيها كتبًا، والكتب: جمع كتاب، وهو فِعال اسم بمعنى المكتوب، فمعنى كون الكتب كائنة في الصحف أن الصحف التي يكتب فيها القرآن تشتمل على القرآن وهو يشتمل على ما تضمنته كتب الرسل السابقين مما هو خالص من التحريف والباطل، وهذا كما قال تعالى: {مصدق لما بين يديه} [البقرة: 97] وقال: {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} [الأعلى: 18، 19]، فالقرآن زُبدة ما في الكتب الأولى ومجمع ثمرتها، فأطلق على ثمرة الكتب اسم كتب على وجه مجاز الجزئية.
والمراد بالكتب أجزاء القرآن أو سوره فهي بمثابة الكتب.
والقيِّمة: المستقيمة، أي شديدة القيام الذي هو هنا مجاز في الكمال والصواب وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس تشبيهًا بالقائم لاستعداده للعمل النافع، وضده العِوَج قال تعالى: {الحمد للَّه الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عِوجًا قيمًا} [الكهف: 1، 2]، أي لم يجعل فيه نقص الباطل والخطأ، فالقيّمة مبالغة في القائم مثل السيد للسائد والميت للمائت. وتأنيث الوصف لاعتبار كونه وصفًا لجمع.
{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)} ارتقاء في الإِبطال وهو إبطال ثان لدعواهم بطريق النقض الجدلي المسمى بالمعارضة وهو تسليم الدليل والاستدلالُ لما ينافي ثبوت المدلول، وهذا إبطال خاص بأهل الكتاب اليهود والنصارى، ولذلك أظهر فاعل {تفرق} ولم يقل: وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة، إذ لو أضمر لتوُهِّمَت إرادة المشركين من جملة معاد الضمير، بعد أن أبطل زعمهم بقوله: {رسول من الله يتلوا صحفًا مطهرة} [البينة: 2] ارتقى إلى إبطال مزاعمهم إبطالًا مشوبًا بالتكذيب وبشهادة ما حصل في الأزمان الماضية.
فيجوز أن تكون الواو للعطف عاطفة إبطالًا على إبطال، ويجوز أن تكون واو الحال.
والمعنى: كيف يزعمون أن تمسكهم بما هم عليه من الدين مغيًّا بوقت أن تأتيهم البينة والحال أنهم جاءتهم بينة من قبل ظهور الإِسلام وهي بينة عيسى عليه السلام فتفرقوا في الإِيمان به فنشأ من تفرقهم حدوث مِلتين اليهودية والنصرانية.
والمراد بهذه البينة الثانية مجيء عيسى عليه السلام فإن الله أرسله كما وعدهم أنبياؤهم أمثالُ إلياسَ واليسع وأشعياء.
وقد أجمع اليهود على النبي الموعود به تجديد الدين الحق وكانوا منتظرين المخلص، فلما جاءهم عيسى كذبوه، أي فلا يطمع في صدقهم فيما زعموا من انتظار البينة بعد عيسى وهم قد كذبوا ببينة عيسى، فتبين أن الجحود والعناد شنشنة فيهم معروفة.
والمراد بالتفرق: تفرق بني إسرائيل بين مكذّب لعيسى ومؤمن به وما آمن به إلا نفر قليل من اليهود.
وجُعل التفرق كناية عن إنكار البينة لأن تفرقهم كان اختلافًا في تصديق بينة عيسى عليه السلام، فاستعمل التفرق في صريحه وكنايته لقصد إدماج مَذَمتهم بالاختلاف بعد ظهور الحق كقوله: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم} [آل عمران: 19].
فالتعريف في {البينة} المذكورة ثانيًا يجوز أن يكون للعهد الذهني، أو للمعهود بَيْن المتحدَّث عنهم، وهي بينة أخرى غير الأولى وإعادتُها من إعادة النكرة نكرة مثلها إذ المعرف بلام العهد الذهني بمنزلة النكرة، أو من إعادة المعرفة المعهودة معرفةً مثلها، وعلى كلا الوجهين لا تكون المعادة عين التي قبلها.
وقد أطبقت كلمات المفسرين على أن معنى قوله تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} أنهم ما تفرقوا عن اتباع الإِسلام، أي تباعدوا عنه إلا من بعد ما جاء محمد صلى الله عليه وسلم وهذا تأويل للفظ التفرق وهو صرف عن ظاهره بعيد فأشكل عليهم وجه تخصيص أهل الكتاب بالذكر مع أن التباعد عن الإِسلام حاصل منهم ومن المشركين، وجعلوا المراد بـ: {البينة} الثانية عين المراد بالأولى وهي بينة محمد صلى الله عليه وسلم سوى أن الفخر ذكر كلمات تنبئ عن مخالفة المفسرين في محمل تفرق الذين أوتوا الكتاب فإنه بعد أن قرر المعنى بما يوافق كلام بقية المفسرين أتى بما يقتضي حمل التفرق على حقيقته، وحمل البينة الثانية على معنى مغاير لمحمل {البينة} الأولى، إذ قال: المقصود من هذه الآية تسلية محمد صلى الله عليه وسلم أي لا يغمنّك تفرقهم فليس ذلك لقصور في الحجة بل لعنادهم فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبب وعبادة العجل إلا بعد ما جاءتهم البينة، فهي عادة قديمة لهم.، وهو معارض لأول كلامه، ولعله بدا له هذا الوجه وشغله عن تحريره شاغل وهذا مما تركه الفخر في المسودة.
{وَمَا أمروا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)}
هذا إبطال ثالث لتنصلهم من متابعة الإِسلام بعلة أنهم لا يتركون ما هم عليه حتى تأتيهم البينة وزعمهم أن البينة لم تأتهم.
وهو إبطال بطريق القول بالموجَب في الجدل، أي إذا سلمنا أنكم مُوصَوْن بالتمسك بما أنتم عليه لا تنفكون عنه حتى تأتيكم البينة، فليس في الإِسلام ما ينافي ما جاء به كتابكم لأن كتابكم يأمر بما أمر به القرآن، وهو عبادة الله وحده دون إشراك، وذلك هو الحنيفية وهي دين إبراهيم الذي أخذ عليهم العهد به، فذلك دين الإِسلام وذلك ما أمرتم به في دينكم.
فلك أن تجعل الواو عاطفة على جملة: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب} [البينة: 4] الخ.
ولك أن تجعل الواو للحال فتكون الجملة حالًا من الضمير في قوله: {حتى تأتيهم البينة} [البينة: 1].
والمعنى والحال أن البينة قد أتتهم إذ جاء الإِسلام بما صدَّق قول الله تعالى لموسى عليه السلام: (أقيم لهم نبيئًا من وسط إخوتهم وأجعل كلامي في فمه)، وقول عيسى عليه السلام: فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم.
والتعبير بالفعل المسند للمجهول مفيد معنيين، أي ما أمروا في كتابهم إلا بما جاء به الإِسلام.
فالمعنى: وما أمروا في التوراة والإِنجيل إلا أن يعبدوا الله مخلصين إلى آخره.
فإن التوراة أكدت على اليهود تجنب عبادة الأصنام، وأمرت بالصلاة، وأمرت بالزكاة أمرا مؤكدًا مكررًا.
وتلك هي أصول دين الإِسلام قبل أن يفرض صَوم رمضان والحج، والإِنجيل لم يخالف التوراة أو المعنى وما أمروا في الإِسلام إلا بمثل ما أمرهم به كتابهم، فلا معذرة لهم في الإِعراض عن الإِسلام على كلا التقديرين.
ونائب فاعل {أمروا} محذوف للعموم، أي ما أمروا بشيء إلا بأن يعبدوا الله.
واللام في قوله: {ليعبدوا اللَّه} هي اللام التي تكثر زيادتها بعد فعل الإِرادة وفعل الأمر وتقدم ذكرها عند قوله تعالى: {يريد اللَّه ليبين لكم} في سورة النساء (26) وقوله: {وأمرنا لنسلم لرب العالمين} في سورة الأنعام (71)، وسماها بعض النحاة لام (أنْ). والإخلاص: التصفية والإِنقاء، أي غير مشاركين في عبادته معه غيره.
والدين: الطاعة قال تعالى: {قل اللَّه أعبد مخلصًا له ديني} [الزمر: 14]. وحنفاء: جمع حنيف، وهو لقب للذي يؤمن بالله وحده دون شريك قال تعالى: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين} [الأنعام: 161].
وهذا الوصف تأكيد لمعنى: {مخلصين له الدين} مع التذكير بأن ذلك هو دين إبراهيم عليه السلام الذي ملئت التوراة بتمجيده واتباع هديه.
وإقامة الصلاة من أصول شريعة التوراة كلَّ صباح ومساء. وإيتاء الزكاة: مفروض في التوراة فرضًا مؤكدًا.
واسم الإِشارة في قوله: {وذلك دين القيمة} متوجِّهٌ إلى ما بعد حرف الاستثناء فإنه مقترن باللام المسماة (لام أنْ) المصدرية فهو في تأويل مفرد، أي إلا بعبادة الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، أي والمذكورُ دين القيمة.
و{دين القيمة} يجوز أن تكون إضافته على بابها فتكون {القيمة} مرادًا به غير المراد بدين مما هو مؤنث اللفظ مما يضاف إليه دين أي دين الأمة القيّمة أو دين الكُتُب القَيمة.
ويرجّح هذا التقدير أن دليل المقدَّر موجود في اللفظ قبله.
وهذا إلزام لهم بأحقية الإِسلام وأنه الدين القيم قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللَّه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة} [الروم: 30 31].
ويجوز أن تكون الإِضافة صورية من إضافة الموصوف إلى الصفة وهي كثيرة الاستعمال، وأصله الدين القيم، فأنث الوصف على تأويل دين بملة أو شريعة، أو على أن التاء للمبالغة في الوصف مثل تاء علاّمة والمآل واحد، وعلى كلا التقديرين فالمراد بدين القيمة دين الإِسلام.
والقيمة: الشديدة الاستقامة وقد تقدم آنفًا.
فالمعنى: وذلك المذكور هو دين أهل الحق من الأنبياء وصالحي الأمم وهو عين ما جاء به الإِسلام قال تعالى في إبراهيم: {ولكن كان حنيفًا مسلمًا} [آل عمران: 67] وقال عنه وعن إسماعيل: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} [البقرة: 128].
وحكى عنه وعن يعقوب قولهما: {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [البقرة: 132] وقال سليمان: {وكنا مسلمين} [النمل: 42]. وقد مضى القول في ذلك عند قوله تعالى: {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} في سورة البقرة (132).
والإِشارة بذلك إلى الذي أمروا به أي مجموع ما ذكر هو دين الإِسلام، أي هو الذي دعاهم إليه الإِسلام فحسبوه نقضًا لدينهم، فيكون مهيع الآية مثل قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أَلاَّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون اللَّه فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64] وقوله: {قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا باللَّه وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل} [المائدة: 59].
والمقصود إقامة الحجة على أهل الكتاب وعلى المشركين تبعًا لهم بأنهم أعرضوا عما هم يتطلبونه فإنهم جميعًا مقرّون بأن الحنيفية هي الحق الذي أقيمت عليه الموسوية والعيسوية، والمشركون يزعمون أنهم يطلبون الحنيفية ويأخذون بما أدركوه من بقاياها ويزعمون أن اليهودية والنصرانية تحريف للحنيفية، فلذلك كان عامة العرب غير متهودين ولا متنصرين ويتمسكون بما وجدوا آباءهم متمسكين به وقلّ منهم من تهودوا أو تنصروا، وذهب نفر منهم يتطلبون آثار الحنيفية مثل زيد بن عمرو بن نُفَيْل، وأميَّة بن أبي الصَّلْت.
وخصّ الضمير بـ: {أهل الكتاب} لأن المشركين لم يؤمروا بذلك قبل الإِسلام قال تعالى: {لتنذر قومًا ما أتاهم من نذير من قبلك} [القصص: 46]. اهـ.